الثقافة والمثقفون والثورة
تأسست في الآونة الأخيرة رابطة للأدباء والكتّاب اللبنانيين كان لي شرف المساهمة في تأسيسها مع مجموعة كبيرة من الشركاء من أجيال مختلفة نساءً ورجالاً من جميع الجهات في وطننا الغالي لبنان.
كان الهدف من تأسيس الرابطة أن يدخل الأدباء والكتّاب في الثورة بالجمع بدلاً من المفرد. ذلك أن الجمع يغني ويعمق ويوسع دائرة البحث في جعل الثورة تسير في الاتجاه الأكثر وضوحاً وعمقاً وغنىً. وهي ثورة تميزت منذ انطلاقتها بعلمانيتها وسلميتها ووضوح أهدافها. وسارت في النضال لتحقيق تلك الأهداف القديم منها والحديث. وهي أهداف ترمي الى تحقيق التغيير الديمقراطي الذي طال انتظاره، التغيير الذي يرمي الى تحرير لبنان مما أدخل فيه من الداخل والخارج من أعمال تخريب وتدمير وفساد واهتراء ونهب وتفكك بناه. وقد ساهمت في ذلك القوى السياسية التي تعاقبت على المسؤولية بنسبٍ مختلفة في السلطة بعد انتهاء الحرب الأهلية في ظل الوصاية السورية وحتى بعد التحرر منها. وأخطر ما يواجه الثورة هو ما وصلت إليه الأمور في البلاد التي لم نشهد مثيلاً لها من السوء في شتى المجالات. لذلك فإن هذه الثورة بسماتها وبالأهداف التي وضعتها أمامها هي من دون شك حدث تاريخي بالغ الأهمية. وأمامها مسؤولية تحرير البلاد من تلك المخاطر التي تهددها والتي أشرت إليها. يؤكد ذلك الوعي الراقي عند الذين أطلقوها والذين يزدادون انخراطاً فيها. ولن يغير في مسارها ما أصاب البلاد والعالم من فيروس كورونا الذي أثبتت السلطنة الراهنة أنها غير مؤهلة لمواجهته ومواجهة أي مخاطر أخرى قد تصيب البلاد.
وغنيٌ عن التأكيد بأن مهمات الثورة أية ثورة، ومنها ثورتنا المجيدة، إنما تحتاج لكي تحقق أهدافها أن تضع برنامجاً واقعياً لا يخلو من الأحلام، من دون أن تسيطر هذه الأحلام على الواقعية في النضال، برنامجاً يحقق المهمات مرحلة إثر مرحلة ومهمة إثر مهمة قابلة للتحقيق، وليس القفز فوق المراحل. ذلك أن الوقائع التي نعيش فيها والتي أشرت الى مخاطرها على وطننا الغالي، هي وقائع معقدة يحتاج النضال لتحريره منها الى زمنٍ ضروري لا بد من الدقة في تحديد الشروط التي على الثورة أن تلتزم بها لكي تحرر وطننا منها بالتدريج.
عندما ناقشنا فكرة تأسيس رابطة الأدباء والكتّاب كنا ننطلق من أن للثقافة وللمعرفة وللعلم بالأشياء دوراً أساسياً في النضال من أجل التغيير الديمقراطي الذي تضطلع فيه الثورة. وأكدنا في الآن ذاته أن للمثقفين دوراً لا بد أن يضطلعوا به. وشرط هذا الدور للثقافة والمثقفين هو أن يخرج المثقف من فرديته ويدخل في شكل جماعي باسم أحزاب أو حركات أو بأي اسم آخر في النضال العام الذي تخوضه الثورة.
وهذا الموضوع الذي أتوقف عنده كان على الدوام شغلي الشاغل في كتبي وكتاباتي ذلك أنني توصلت من خلال تجربتي التاريخية باسم ماركسيتي الى أن المثقف لا يمكن أن يكون صاحب دور في النضال من أجل التغيير الثوري إلا إذا أنجز أمرين في آن معاً، أن يكون مثقفاً نقدياً وأن ينخرط في شكل جماعي في الأطر التي تستخدمها الثورة من أجل التغيير. غير أنني أود أن أتوجه من الموقع الذي أنا فيه في رابطة الأدباء والكتّاب ، وفي المهمات الفكرية، التي أشغل نفسي فيها استناداً الى تجربتي التاريخية وأنا في التسعين من عمري، أود أن أتوجه الى الثوار بالدعوة الى توحيد صفوفهم والى الانخراط في صياغة البرنامج الذي أشرت إليه آخذين في الاعتبار أن مهمة التغيير التي تضطلع بها الثورة ليست سهلة، بل هي صعبة ومعقدة وطويلة المدى. ذلك أنه لا سبيل أمامنا للخروج مما أدخلتنا فيه السلطات المتعاقبة بكل ما ارتبط بسياساتها من تدمير منظم للبلاد، لا سبيل أمامنا سوى الاستمرار في الثورة حتى ولو طال المدى. فمهمة الثورة، مهمتها الأساسية، هي إنقاذ الوطن مما أدخلته فيه وما تزال تدخله تلك السلطات من خراب. فتلك هي في الأساس المهمة التي تضطلع بها الثورات في العالم قديمها وحديثها. وأمامنا تجربة فذّة تتمثل في الثورة السودانية التي انتصرت بعد عناء وتضحيات، وحققت أهدافها التي من أجلها انطلقت واستمرت في النضال ووضعت الحكام الفاسدين في السجون. ودخلت الحكومة التي تشكلت بعد انتصار الثورة في مهمة تحقيق أهداف الشعب السوداني التاريخية. ومن فضائل الثورة السودانية، ومن سماتها التي تلتقي مع ثورتنا اللبنانية، أنها شكّلت الأدوات والوسائل الضرورية التي باسمها حققت انتصارها.
تلك هي بعض الأفكار التي أردت أن أقدمها لثوارنا الأبطال، وأنا عميق الثقة بأنها ستصل الى مبتغاها، حتى ولو كانت الشروط الراهنة في الصعوبة القصوى كما تشير الى ذلك الوقائع.