بيروت خيمتنا
ليس جديداً ما أصاب بيروت في انفجار الرابع من شهر آب وما أصاب لبنان من جرّاءه. فمثل هذه النكبة التي أصابت بيروت هي واحدة من النكبات التي كانت البداية فيها عندما جرى تدميرها قبل قرون بعد أن كانت قد اصبحت مدينة الشرائع. كان ذلك التدمير أول تلك النكبات التي أصابتها وأصابت لبنان من جرائها قبل أن يولد في صيغته التي بدأ يتأسس فيها كوطن حديث بعد متصرفية جبل لبنان في عام 1863.
من الطبيعي إذاً عندما يذكر اسم بيروت أن يذكر معها بالضرورة إسم لبنان. وعندما يذكر اسم لبنان يذكر معه اسم بيروت بالضرورة. أقول ذلك وأكرر كما فعل ويفعل آخرون ممن ينتمون انتماءاً حقيقياً الى الوطن اللبناني الأصيل بتنوع سماته وتعدد مكوناته، الوطن الخالد الذي تشكل بيروت ليس فقط عاصمة له بل كجزء أساسي مكون منه ومعها مجموعة من المدن التاريخية التي أعطت جميعها للبنان سمة الشخصية الفريدة وعبقرية المكان.
بيروت خيمتنا. هذا ما قاله شاعر الثورة الفلسطينية محمود درويش عندما زارها في أواخر تسعينات القرن الماضي بعد غياب قصري دام خمسة عشر عاماً. والوصف الذي أعطاه محمود درويش ل"بيروت خيمتنا" هو اعتراف منه ووفاء باسم فلسطينيته لما أعطته بيروت وأعطاه لبنان للقضية الفلسطينية في الصواب منه كحقٍ وواجب، وفي الخطأ من ذلك العطاء الذي دفعنا ثمنه باهظاً كلانا لبنانيين وفلسطينيين. إلا أن تأكيدي على أن بيروت خيمتنا هو لأن بيروت هي أمنا نحن اللبنانيين من كل المناطق، أمنا التي احتضنتنا واحتضنت وطننا عبر التاريخ قديمه وحديثه ودفعت ودفعنا معها الثمن الباهظ مرورا بالحرب الأهلية وصولاً الى الرابع من آب.
كانت بداية علاقتي ببيروت في عام 1939 عندما كنت في التاسعة من عمري. ذهبت في صيف ذلك العام مع والدي الشيخ أحمد برفقة شقيقي محمد حسين ومرتضى وابنيّ عمي الشيخ زين عبد الحسين وعبد الرضا. ذهبنا في ذلك التاريخ حاملين على رؤوسنا طرابيش ذلك الزمان التي كانت سائدة في عوائل عديدة مثل عائلتنا الدينية وعائلات أخرى مدنية. ذهبنا في ذلك التاريخ لاستقبال عمنا الذي صار فيما بعد يحمل صفة الشيخ زين العائد من هجرة طويلة قضاها في سيراليون في افريقيا الغربية اسوة بالعديد من المغتربين من أبناء الجنوب البناني. لدى وصولنا الى بيروت كانت أول مهمة لنا الذهاب فوراً الى المرفأ لاستقباله على أبواب الباخرة. وهي أول وآخر مرة دخلت فيها الى مرفأ بيروت. لذلك فإنني لا أذكر شيئاً عن المرفأ الذي دمر في الرابع من شهر آب ودمرت معه مناطق واسعة من بيروت الخالدة.
استقبلنا عمي وذهبنا فوراً معه الى منزل عمتي الحاجة فاطمة في منزلها الواقع في منطقة البسطة التحتا القريب من الجامع الشهير في ذلك المكان. ثم قمنا جميعاً والدي وعمي وشقيقيّ وابنيّ عمي الى شارع "سوق الطويلة" في القسم الأخير منه حيث كانت تقع مكاتب جريدة النهار، لزيارة نسيبنا الاعلامي الكبير كامل مروة.
أما الزيارة الثانية لبيروت فكانت في عام 1943 . أرسلني يومها والدي لمتابعة دراستي المتوسطة في مدرسة حوض الولاية العريقة في التاريخ. وصادف وجودي في بيروت في تلك المدرسة في ذلك التاريخ أن سلطة الانتداب الفرنسي كانت قد اعتقلت حكومة الاستقلال . وكنت فور دخولي الى المدرسة قد شكّلت مع زملائي جمعية ثقافية كنت أنا مديرها وكان رئيسها عاكف حيدر الذي اصبح فيما بعد نائب رئيس حركة أمل. فقررنا أن نشارك في الاحتجاج على اعتقال حكومة الاستقلال وخرجنا في مظاهرة من دون أن نطلب إذناً من إدارة المدرسة. فاستقبلنا على الفور من قبل القناصة السنغاليين الأمر الذي جعلنا نتوزع كلٌ منا في جهة. وأذكر أنني أضعت الطريق الذي يعيدني الى المنزل الذي كنت أقيم فيه مع شقيقي محمد حسين وشقيقتي فاطمة القريب من المدرسة. وبقيت ابحث عن المنزل على امتداد النهار الى أن وجدتني أمامه بالصدفة.
وأذكر أنني بقيت أربعة أشهر في بيروت ساعدني فيها على التعرف الى معالمها ابن عمي منير الذي كان يتابع دراسته في الجامعة الأميريكة. قادني الى جميع المعالم وحدثني بالتفاصيل عن التاريخ القديم والحديث الخاص بمدينة بيروت. وكان لساحة البرج ، ساحة الشهداء، مكان خاص في ذلك التجوال داخل بيروت. واذكر أن ابن عمي منير رافقني الى ملهى فاروق الذي يقع في أعلى الجهة الغربية من ساحة البرج للاستمتاع بمشاهدة الراقصة المصرية سامية جمال. وهي ذكريات لا تنسى جعلت بيروت بالنسبة لي بدءاً من طفولتي مثل الحلم.
في عام 1949 عدت من العراق حيث كنت أتابع دراستي برعاية ابن عم والدي حسين مروة في بغداد. وبدأت أزور بيروت للقاء حسين مروة الذي كان قد استقر فيها بعد عودتنا من العراق. وصرت أزورها كل أسبوعين قادماً من مدرسة بلدة شمسطار البقاعية التي كنت أدرّس في مدرستها لقضاء يومين بضيافة حسين مروة وتجوالي في شوارعها برفقة نزار ابنه البكر ورفيق العمر. لكن أهم ما اذكره في تلك الزيارات بين عام 1950 وعام 1953 العلاقة التي ربطتني بالشاعر والأديب والمفكر عبد المطلب الأمين الدبلوماسي والمحامي والقاضي السابق الذي ربطتني به علاقة صداقة حميمة بواسطة حسين مروة. وصرت رفيقاً له في زيارات ملاهي وبارات بيروت في مختلف مناطقا. وهي ذكريات لا تنسى. ثم صرت من سكان بيروت في ضاحيتها الجنوبية عندما انتقلت العائلة من مدينة صور إليها. وبعد ذلك بأعوام انتقلت الى منزل في شارع مار الياس وصرت واحداً من أبنائها تحقيقاً لحلمي التاريخي.
في عام 1952 أصبحت طالباً في الجامعة اللبنانية في العام الثاني لتأسيسها نائباً لأول رابطة طلابية فيها بشخص صديقي التاريخي فؤاد الترك . ثم صرت في الآن ذاته المسؤول عن منظمة الطلاب في الحزب الشيوعي. وكان آخر ما قمت به من موقعي المشار إليه التحضير لمظاهرة استنكاراً لزيارة وزير خارجية أميركا فوستر دالاس المشبوهة. وكانت مظاهرة حاشدة انطلقنا فيها من منطقة البربير الى ساحة البرج. وصارت بيروت منذ ذلك التاريخ مركزاً لمناهضة الأحلاف الأجنبية "حلف بغداد " و "وحلف السنتو". وصارت بالآن ذاته مركزاً لمظاهرات التضامن مع الحركات الوطنية في البلدان العربية مشرقاً ومغرباً وفي مقدمتها الثورة الفلسطينية في مراحلها المختلفة. وصارت أيضاً مركزاً للتضامن بصيغ شتى مع الحركات الوطنية في بلدان آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية.
كانت تلك إذاً البدايات التي ربطتني ببيروت. وصرت منذ ذلك التاريخ من أبنائها باسم جنوبيتي مع اعتزازي الشديد بانتمائي إليها وبتاريخها القديم والحديث.
لم يكن سهلاً علي بحكم علاقتي ببيروت ومعرفتي بتاريخها القديم والحديث أن أكون شاهداً على ذلك التفجير المشبوه في المرفأ الذي أصابها بنكبة تذكرنا بالنكبات السابقة قديمها وحديثها التي هزت لبنان من أقصاه الى أقصاه..